الرئيسية » » نص من سيرة | عبد الله عيسى

نص من سيرة | عبد الله عيسى

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 22 يونيو 2015 | 10:14 م

فلسطين كلها تتذكر:
(كل حرب وأنت بخير : حرب تشرين )
د.عبدالله عيسى *
لم يكن شهر رمضان ذاك العام أشبه بسابقيه ، ولم يجئ على هيئة لاحقيه .
مع كل رمضان ندعو الله ألا نكبر ، فما دمنا أطفالاً فلا بدّ سنغفو على مخدّاتنا الصغيرة وقد طوينا تحتها ثياب عيد الفصح الجديدة ، وقد لا نغفو : فقد كنا كثيراً ما نرتديها ونتبختر بأحذيتنا النظيفة في بهو البيوت . وكان آباؤنا يصحون تحت وقع خطواتنا الفرحات ، فيدسّون رؤوسهم تحت الألحفة الفقيرة ، شاكرين الله أن منّ عليهم ، وأهدونا سعادة هي ملء الدنيا لنا ، ووجع رأس لهم : فالفقر يضرب أطنابه في الأرجاء .
رمضان ذاك رماني خارج رحمة ملائكة أحسّها قريبة من قلبي ترفرف بأجنحتها الصغيرة تستدرجها أمي في دعوات طيبات آناء السُحور لتحرس غدي الماضي إلى غده على قرني ثور أعمى يلفّ الأرض حول ساقية .
رمضان ذاك كان من أقسى الشهور . حرمني من عودتي إلى هناك ، إلى فلسطين التي تلازمنا كأسمائنا بين أقراننا وكملامحنا بين الكائنات ، على صور أراها في ذاكرتي ْ جدتي ّ : سعدة النمر وهي تترفّع على بلاغة أعلى من كلام مخلوقات المخيم والمخيمات المجاورة إذ تعرج بنا في أثر جدي محمد عيسى وهو يصعد تلال القدس ويهبط إليها حاملاً دمه ، مع سواه من المجاهدين على كفّه ، أو تسري معه بنا في السهول المنبسطة حول بحيرة طبريا ككف ّ نبي ّ كريم وهو ومن معه يطاردون المغضوب عليهم من اليهود والضالين من الإنكليز ، أو جدتّي عائشة المهاوش وهي تقلّب القلوب على رحى أسىً فتاك ٍوهي تتقصى أثر مصير ولديها : فاطمة بنت السادسة وإبراهيم إبن السنة في لفافته ، وتقصّ كيف تركتهما بين يدي الله في مسجده في أطراف عكا عام النكبة في عُهدة عائلة جيرانها " بيت أبي الهيجاء " حتى تذهب وتحضر الماء لفاطمة الباكية من عطش . ولم تبتعدْ كثيراً عن بيت الله . الدويّ الذي زلزل الأنحاء هزّها على أرض زُلزلت بجسدها مغشياً عليها ، إذ رأت النار تأكل بيت الله . ولم تستفق حتى الآن على صباح أو تغفو على ليل دون أن تبكي فقيديها . ودائما ً ما ترفع يديها عالياً وعيناها تتحرّقان على دموع ٍ كأنك َ تسمع صهيلها المجروح : " يا رب ّ ! . يا كريم ! لا تأخذ أمانتك مني إذا كانت فاطمة وأخوها إبراهيم فيهما نَفَس على أرضك الواسعة ، وخذها يا لطيف لو كانا بين يديك .."
هكذا هو رمضان هذا العام إذن . علي ّ بعد الإفطار مباشرة أن أذهب إلى بيت خالي غازي الحسن لأحرس ليل زوجه عزيزة . بما ليس لقلبي الصغير أن يحتمله كنت على حب ّ كبير لخالي غازي هذا . رجل ولا كل الرجال . حتى أشدّ زعران يلدا والقرى المجاورة يطلبون ودّه ويبعدون عن شرّه ويغنّون . وتحسبّا ً من غضبته لم يكن لأحد منهم أو سواهم أن يتجرأ ويدوس على ظلّي . لكأن قامته تصبح أعلى قليلاً ، ويغدو أجمل من سواه ، حين يرتدي بزّته العسكرية ، وقد انتصب النسر على جبهته محتضنا ً العلم الفلسطيني في بيريه عسكري ّ أحمر قان ٍ يدلّ على جيش التحرير الفلسطيني . هكذا دس ّ جسده في السيارة العسكرية مبتسما ً إلى جوار ضابط بدا كئيبا ً على يسار سائق ضجر ، فيما غصّت الناقلة بجنود بدت ْ بزاتهم العسكرية أوسع من أجسادهم . مذ ذاك لم يعدْ ، تاركا ً عزيزة أمانة في عنقي ، ولم يكن قد مضى شهر على زواجهما .
لأول مرّة في حياتي أنام على سرير ، إلى جوار عزيزة . تسع سنين كاملات وأنا أغفو على فرشة الاسفنج في الصيف أو على فرشة الصوف في الشتاء . وكانت عزيزة تأنس بي فحسب ، وكأنني هر ّ . الوحشة التي تتسكع طيلة الليل في البيت من بوابتيه : إحداهما جهة المخيم والثانية تطل على البساتين التي تأوي وراءها القاعدة العسكرية الروسية ، وتتمرّغ كسيدة الأرجاء إذ تصفّر الريح بين أعواد الخشب الجافّة المرميّة على سطوح البيوت انتظاراً لشتاء بارد قادم ، تُطيّر النوم من عيني ّ . لكن الأشباح التي هاء لي أنها خرجت ْ عليّ من البئر العميقة التي تتوسط بهو الدار ظلّت تؤرق مضجعي كلما وردتُ البيت هذا . وأتحسّس خنجراً دسستُها تحت وسادتي ، وتستفيق عزيزة لتتأكد من أن الباب موصد بالمفتاح ، وأن أحداً لا يطل من النافذة الصغيرة ، المطلية بدهان أزرق ، المطلة على زقاق المخيم ، فيما أبقى على انتظار الصباح كهائم على وجهه .
يا لاحتضانات أمي المشفقة إذ تلم جسدي الهارب إليها من لسعة برد صباحي . ويا لدعواتها الطيبات إذ تشيعني إلى المدرسة بعد أن تجمّلني لأبدو أكثر وسامة من أقراني ! .
ولم تكن عودتي في العاشر من رمضان ذاك كغيرها .
رائحة خبز أمي تسدّ الآفاق ، تستدرج ُ الأنفس الدابّة في المخيّم من ريقها إلى أرغفة الخبز الرقيقة المقمّرة على حديدة الصاج تحت نار مجمّرة . ولا تترك أحداً من أقراني أو ذويهم يطلّ برأسه من بوابة بيتنا الحديدية دون أن تحلف عليه وتعطيه رغيفا ً ساخنا ً يتأبطه ، أو أكثر فيما لو كان أفراد عائلته أكبر من رزق معيلهم .
وجلسنا أنا وطعمة ، العائدين للتو من المدرسة ، على ركبنا جوار النار الدافئة نقلّب أنفاسنا على رائحة الخبز وريقنا على طعمه الذي يأخذ منا كل مأخذ . ولم أذعن لتوسلات أمي ، الضجرة على عجل أحياناً ، بأن أترك مكاناً في بطني لطعام الغذاء مع أبي في الساعة الثالثة . والغذاء معه أشبه بطقس بليد علي ّ ، نلتم ّ فيه حول المائدة على الأرض ، ويبدأ باستنطاقنا عن دراستنا ومشاغلنا اليومية . وجبة يومية من الرقابة على البطن والعقل معاً . شوربة العدس أولاً ، ثم ما تأتي به يدا أمي ، وكثيراً ما تجعل من ورق الخبيزة وليمة شهية . فمنها الخبيزة مع البصل بزيت الزيتون ، وأخرى مع البندورة والثوم ، والسلطة من الفرفحينة والخيار واللبن .. كلها من
خيرات أرض الغوطة التي تحيط بالمخيم من جهاته الأربعة . لكني ملأت بطني بخبزها حتى
كاد يخرج مع أنفاسي .
ولم يحضر أبي يومها الغذاء المعدّ له . وكأن البيت خوى على نفسه ، فلم يتأخر قطّ عن عادته اليومية تلك . وأدركنا أن يومه الذي تأخّر عنّا جلل ، مذ حي ّ المؤذن على الجهاد مبشّراً بنصر قريب من الله . و حين عاد في جوف الليل رأينا بارودة تتسند على كتفه الأيمن . قال : " تطوّعنا بالجيش الشعبي " .
وسألته : وبعد الحرب ؟ نرجع لفلسطين " .. وكأن ّ جمرة وقعت ْ على لسانه ، جمط ريقه بصعوبة ، وأحنى سعال طويل ظهره ، والبندقية تهتز ّ على جنبه بعلوّ ودنوّ صدره من هواء ضاق في رئتيه .
لم تكن الحرب قريبة من أعمارنا الصغيرة تلك كهذه . كانت تحوم حولنا ، في سِفر ذاكرات الجدات وحكايات الأجداد المأساوية ، وفي الجثث القادمة إلينا من الأردن في أيلول الأسود وحرب الكرامة و من لبنان في الحرب الأهلية ومشتقاتها .
لكن حرب تشرين هذه كانت تجلس إلى جوارنا على مقاعد الدراسة ، وتُدب ّ الرعب في شفاه وسيقان أساتذتنا كلما أطبقت صفارة الإنذار من غارة اسرائيلية محتملة على الجهات جميعا ً . وتُنازِع أهل المخيم على موائد الإفطار فيبتهلون لله بالنصر المؤوزر ، أو الشهادة وهم على صومهم قائمين . وقررت ُ أن أصوم ..
لكن ، لم يكدْ ينادي مؤذّن الجامع القديم لصلاة الظهر حتى كاد الجوع يلتهمني ويخثّر العطش خلايا دمي . نظرت ُ حولي في أرجاء بهو البيت . حسنا ً لا أحد يراقبني . ورفعت ُ عيني ّ إلى السماء . لا أحد يراني إذن . ودسست ُ رأسي في سطل ِ ماء ٍ بدا لي مبرّداً في ظلال رطوبة ِ المطبخ الصغير ، وكرعت ُ منه ما أحيا الروح مني ، وكالمفجوع انهلت ُ على أرغفة خبز أمي المغطاة بحديدة الصاج لتبقى ساخنة ، فأترعتُ بطني منها حتى كاد يندلق ُ أمامي . وخرجت ُ وكأن شيئاً لم يكن . لكن ّ وجه طعمة الذي بدا ضيّقاً على حروقه وقد اتسعت ابتسامته المتشفّية بحالي ردّني إلى نفسي . " يا الله ، وأنا ما أحسن منك " قال ، وقد ضاقت عيناه بشعور باللاجدوى . وكأن ماء السطل لم يروه من عطش ، ولم يأت رغيف الخبز الذي ابتلعه بلقمات كبيرات على جوع أتخم جوفه ..
ثمة شيء ما يتطيّر بي : ندم ٌ غلاب من كسري لصومي ، وخوف من أن يذهب بي موت ، تأتي به الحرب إلي ّ ، لملاقاة خالقي وأنا مفطر . وعللت ُ النفس بأني ما أزال في التاسعة . وكُتمت ْ أنفاس طعمة برعشة رهيبة ، فقد تذكّر فجأة أن عمره ثلاثة عشر سنة . وأن الصيام يحل ُّ عليه .
ولم تهدأ الأرض إلا وقد وقفت بنا على ضفّة نهر شق ّ العجوز أمام معسكر الفدائيّة . هناك ، ارتعدت ْ فرائص طعمة واهتزت به قدماه . وإذ أشفق على نظرتي الحائرة الخائفة التي أهلتُها عليه ، قال : " ما دخلك أنت بإفطاري . أنا وربي نصطفل .خليه يعذبني إذا مت ّ اليوم وأنا مفطر " . ورفع عينيه للسماء بيدين بدتا ضارعتين ، واقتفيت ُ بعينيّ أثر نظرته إلى عل ٍ . وصعقنا بما رأينا . أشبه بمضغتين بيضاوين تهبطان من السماء تماما ً فوق رأسينا . وانقبضت ْ أكتافنا على رقابنا إذ هزّتنا دهشة قاحلة . ملائكة ؟ . كأني سمعت طعمة يفكّر في نفسه ، أوهكذا هاء لي . ولم يكونوا كذلك ، مذ أدركنا ضجيج خطى ولهاث رجال ، كثير منهم بلباس عسكري أخضر يمتطون بنادق قديمة ، و كادوا يكتمون أنفاسهم إذ انتبهوا أن الفدائيين سبقوهم إلينا متأبطين الكلاشينكوف ، وعيونهم تتابع الهابطين من السماء ، وقد بدا جسداهما معلّقين على حبال تتدلى من مظلتيهما . وجرى لغط ٌ كبير وكأننا في يوم حشر . إنهما طياران اسرائيلييان يا إلهي . وسُمِع لارتطامهما بالأرض صوت صعوق ٌ زعوقٌ دوى في أذني ّ طويلاً . وكدت ُ أموت من رعب ٍ مذ وقعتْ عيني عليهما . يا إلهي أنهما بشرُ مثلنا . غير أولئك الذين تخيّلناهم في حكايات أجدادنا عن النكبة . ولم يمسسهما أحد بأذى . فكّوا عنهما الأحزمة التي شُدّت على جسديهما وانتشلوهما من بين حبال المظلتين البيضاوين الكبيرتين ، وكانا مذ سقطا على الأرض ، قريبين من بعضهما وكانهما اتفقا على ذلك ليؤنس كل منهما الآخر ويلاقيا المصير نفسه ، يرفعان أيديهما خلف رأسيهما مستسلمين . ونَهَرَ الفدائي ّ " أبو الليل " رجلا ً تسابق للهجوم بقبضتيه المرفوعتين على أحدهما ، وذكّر بلهجة ٍ آمرة : " أحسنوا إلى أسراكم " . ولم يفهم طعمة ما وراء الأمر ، ومططت ُ شفتيّ هازّاً رأسي وكتفي ّ مستغرباً ومندهشاً إذ سألني . ثم ضرب بكلتي يديه على رأسه ، كعادته في مثل هكذا حالات ، وشدّ شعره الأجعد : " يا الله علي ّ ! كيف نسيت النقّيفة ؟ " .
ولم تعد نقيفاتنا تفارقنا ، لكننا لم ننقف أحد من الطيارين الاسرائيليين الساقطين من السماء علينا كطيور مجروحة ، فقد امتثلنا لأمر الفدائي ذاك .
صرنا نتابع بأعيننا صعود صاروخ سام 6 الروسية على نار لهابّة في ذيله ، " أبو قفا أحمر" كما سمّاه محمد الصلي ، ليشعل دخانا ً كثيفاً في كِسرة ٍ ما في السماء ، فتخرج منها مضغة بيضاء نظل نطاردها لاهثين خلفها ، مع رجال كثيرين مدنيين وعسكريين ، لتهبط بطيار إسرائيلي أسير . وكدنا نألف هؤلاء الأسرى بشراً سويين مثلنا ، وكأننا صرنا نشفق عليهم مذ نزلتْ عليّ ، وطعمة معي ، آهات ذاك الطائر الإسرائيلي المجروح أشبه بأنّات صقرٍ مُجرّح ٍ بإبطيه الراعفتين فلا هو يقوى على الطيران ولا يقدرُ على الصراخ كي لا يبقى فريسة لدواب الأرض .
الحنين إلى الحياة التي جُعِلتْ في الماء قادنا لخوض مغامرة السباحة في يوم تشريني كانت الشمس فيه تنهض بالصباح على حياء . لكن ماء نهر شق ّ العجوز كان محموماً ببرد لم نعهده من قبل . وأثارنا ذلك الهدوء المريب الذي يطوي معسكر الفدائيين على حافة النهر المقابلة . لكن الفدائي المناوب الذي يقضي وقتاً غير يسير في عبور الشرفة في الطابق الثاني ذهابا ً وإيابا ً التفت إلينا . وفتلت ُ له كفي مستفهماً بإشارة مستفهمة ، فوضع رأسه وقد ميّله قليلاً على بطن يمناه ، ففهمت ُ أن الأحياء فيه نيام . وشئنا أن نهبهم وقتاً طيباً هادئاً لنوم طيب ٍ هادئ بأن عزفنا لوقت ٍ من النزول بأجسادنا للماء ، فلا بد أن ارتطامها به ستطرش جدران المعسكر بما يخرج منه ضاجّاً ضجراً فيفسد نومتهم . وقررنا نَقْفَ الضفادع لخلع الجلد بعد صيدها عن أفخاذها ، ثم شويها والتلذذ بطيبات ما خصّنا الله به . وهناك ، على مقربة من شجرة التين التي تحنو على مجرى النهر ، وفيما كانت حجارة نقّيفاتنا تجرح الماء بصوت صاعق يخترقه كسهم من نار وتطيّر جسد الضفادع أعلى من الأعشاب التي تكلأ ضفة النهر من هبوط التراب والغبار عليه ، اختلط علينا أمر الآهات النحيلة المكلومة التي وردت ْ أسماعنا كأنها خارجة من قبر داثر . هل يتألم النهر؟ أم هي الضفادع تئن تحت قصف حجارة نقيّفتينا وتشكونا إلى الله ؟ . يا إلهي ! إنه ألم آدمي . ورُجّت الأرض تحت أقدامنا ،أنا وطعمة ، وضاق الهواء على رئتينا حتى كادت أنفاسنا العجولة تخنقنا . جسد طيار اسرائيلي مشدود بالأحزمة وحبال المظلة تلفّه كيفما اتفق ، فيما دم قان يقطر من ركبته ليغسل بلونه ماء النهر . عيناه المتوسلتان أدركتاني بنظرة راعشة راعفة زلزلتني ، فيما كادت آهته تلك العميقة الألومة تنهش روحي . وكأن طعمة هيّأ نقيفته لشأن في رأسه ، وكأن ّيدي مُدّت إليه مانعة ً رادعة . وسحبته من يده عائداً إلى معسكر الفدائيين ، مسرعين نتلفتُّ خلفنا خائفين . وطرقنا باب المعسكر ، وفُتح لنا فخرج أبو الليل ومن معه بصحبتنا إلى الطائر الاسرائيلي الساقط . فكّوه ، وحملوه بجراحة على مهل ، بعد أن شقّ أبو الليل قميصه الخاكي و ربط جرح قدمه اليسرى . وصرخ : " على مهلكم عليه . يمكن ذراعه مكسورة " . وأدخلنا معه المعسكر، وقد أراد أحدهم منعنا فصرخنا به ، والرعب يأكل أحشاءنا . ولم يمرّ وقت طويل حتى وقفت سيارة شرطة سورية وسيارة إسعاف خلفها على مبعدة من بوابة المعسكر . وضعوه على نقّالة وأخذوه . فيما خصّنا ، أنا وطعمة ، الضابط ، وكان يسجل شيئاً في دفتره يلقنه إياه أبو الليل ، بنظرة رقيقة عزيزة ، وقال لي : " عشت يا بطل ! " ، وإذ ضج ّ جسد طعمة لإثارة انتباهه ، قال له : " وأنت بطل " . وهزّ أبو الليل كتفي بيده القوية ، ثم مسد على شعري ، ولم تتسع الأرض والسموات وما بينهما لما مسّني مما مسّني .
ولم أعد أخاف من الوحشة القهّارة في بيت خالي غازي الحسن ، وأنا أحرس ليل زوجه عزيزة . وكثيرا ً ما صرتُ أتسلّل ُ من الغرفة إلى الفناء وأحدّق في الأرجاء . وطويلاً ما كنتُ أتخيّل أنني أقبض ُ على طائر إسرائيلي نازل من السماء على مقربة من بئر البيت .
لكن ذلك لم يدم طويلاً .
ظهيرة يوم تشريني مشمس . فجأة بدت السماء صافية كنبع نهر شقّ العجوز . فخرجت عصبتنا : أنا وأولاد الشاذلي وأبناء أسماء ، خلف بيوتنا في سهل المختار عنتر الذي صيّرناه ملعباً نلعب كرة القدم . وكعادتنا ، نتوثب بين حين وآخر معلقين عيوننا في السماء علّ تهبط بطيار إسرائيلي ، لكنها جاءت بما هو أشدّ بلاء وعتيّا .
سرب ٌ هائج من الطائرات طلع علينا من وراء شجيرات حور تسيّج مدرسة يلدا الإبتدائية من ناحيتها الشرقية . رأيت النجمة الإسرائيلية على إحداها فعلقت ْ في ذاكرتي كخيانة عظمى لحبيبة أولى ، وكأن أقدامنا تضرب بظهورنا كانت إذ ركضنا مسرعين إلى المخيم . كاسرة ً جدار الصوت جعلت الأرض تحتنا تميد كسجادة صلاة على هواء قلق . وزلزلت الأرض من صواريخ أطلقتها ومن صواريخ فجّرتها في القاعدة الروسية . وعبق الدخان واصلاً السماء بالأرض . الطائرات تحوم فوق المخيم وكأنها تتبختر على كبر . ودستني أم سامي الغوراني في حجرها من خوف علي ّ ، أو ربما ظنتني من عمى قلبها تحت حجيم الطائرات المغيرة إبنها أحمد . ولم أر أمي ، فوزية الحسن وأخوتي : هولة وعائشة ومنيرة ومحمد وعيسى بين الأجساد
المرمية كيفما اتفق في الزقاق الضيق كتحيّات ٍ عجلات ٍ مهملات غير مرغوب بالرد عليها .
وأدركني صوت ٌ ليس غريبا ً لكنني لم أتحقق من صاحبه : " أمك ، طلعت بأخواتك من تحت
الضرب على بستان " حدُّو اليلداني " مع خلق الله من المخيم " . وكأن يداً أمسكت ْ عبثاً بظهري خائفة من أن ينكشف جسدي على الطائرات التي تكاثرت في السماء كسرب غربان .
وإذ رأيت حالتها تفطّرت روحي من كمد ٍ وكادت عيناي تبيضان . تلطم خديها ، وقد كادت أن تشقّ زيقها ، فيما أخواتي يتعلّقن بركبتيها باكيات ، فيما جدتي عائشة المهاوش تصرخ : " شربة ماء . الولد أزرق راح يختنق " .
وكانا أخواي عيسى إبن السنتين ونصف ومحمد في لفافته ، ممددّان أمامهما ، وحولهما تلتف ّ أجساد حائرة لم يلهها مصيرها عنهما . ومسحتْ أمي دموعها إذ رأتني ، ووقفت متسمرة بعينين كأنهما تحجرتا عل دمعتين كبيرتين . ولم أردّ على توسلاتها بأن أعود : " يُمّا ، يا حبيبي برضاي ورضا الله عليك ، لا تروح . ما يكفيّني عيسى ومحمد . خليك إنت عايش لي " .
تحت جحيم الطائرات عدت ُ إلى بيتنا . ملأت ُ " طنجرة " الألمنيوم بعد أن سكبت منها شوربة العدس ، بماء خرج بارداً من بطن بئر من فم " موتور الكبّاس " وقد أنهك ضغطي هابطاً صاعداً على يده لإخراج الماء ذراعيّ . كل ّ من رآني خارجاً بها ، رافعا ً على رأسي ، ماشياً الهويني من خشية ٍ أن يندلق الماء منها إن حثثت ُ الخطى ، ناداني ، أو صاح بي ، أو ربما نهرني بصراخ لاذع . " ولك ، يا مجنون ، لا تمشي تحت الطيارات " . " طنجرة الألمنيوم راح تعكس الضوء على الطيارات ، والله لتقنصك " . " إرجع ، قبل ما تجيب آخرتنا معك " .
وإذ جئت ُ أمي سالماً رمتني طويلاً في صدرها الناشج كقلب ٍ موجوع ، وكانت جدتي ترش ّ الماء على وجه أخويّ ، وتسقي عيسى ، مرددة : " اسم الله عليكم كلكم " ، وتبكي بحرقة . علها تتذكّر ابنبها فاطمة وإبراهيم الذين أكلتهما نار قصف الاسرائيليين ، عام النكبة ، لمسجد وضعتهما فيه بين يدي الله ليحرسهما ، ولم تكن تفكّر أن بيوت الله ليست معصومة من حقد المغضوب عليهم . وعادت الحياة لأمي إذ أدركتها أنفاس أخويّ حيّين بين الأحياء . وطويلاً ظلت الطائرات ُ تفسد السماء فوقنا ، فيما كنتُ منبطحاً على بطني ، وقد غمدتُ رأسي بين ذراعي ّ .
في المساء عاد أبي فاحتشد أهل المخيم في بيتنا . كان البيت ُ معتماً ، فالشبابيك مطليّة بالأزرق والمصابيح مطفأة خشية أن تدلّ الطائرات على وجودنا . شرعوا يذكرون يومهم ، بالويلات والآلام الفتّأكة ، والحمد لله أن تركهم أحياء يرزقون في أرض شتاتهم . وظلّوا طويلاً يتفكرّون كيف قُيّض لأمي أن تحمل أبناءها وتخرج بهم من تحت هدير الطائرات ، وقالت الحاجة حدواشة :" الله ستر وما انختق ولداها تحت عبطتها وهي راكضة " . وصادقت ُ نظرات الأعتزاز في عينيه إذ قصّوا لأبي ما رأوا مني ، داعبني زعل الغوراني : " طلعت من تحت الطيارات كأنك قط بسبع أرواح ، وفي البستان كنت تخبىء رأسك بين يديك . لما ينزل صاروخ الطيارة يطيّرك كلّك " . وابتسمت عينا أمي ، ثم التفتت ْ ناحية أبي " قال : خائف على رأسه . فيه أشياء مهمة " . وضحكوا . وضحكت ، لكن زوج خالي عزيزة أفسدت ْ عليّ إطراءهم والتمامهم على خوف متسامرين ، إذ ذكّرتني أن عليّ أن أذهب للنوم في بيتها .
وشعرت ُ يومها بخوف مكين تمكّن من خلاياي جميعا ً بعد أن جاءني رجع دخان حريق من جهة القاعدة الروسية . لعلي إذ خرجت معها من بينهم أدركت ُ أن الموت مفرداً نقمة . لكن ّ مسّا ً من ريح طمأنينة عبرني إذ تذكرتُ ما قاله أحمد الشاذلي :" صواريخ سام 6 في سوريا أكثر من عدد الطائرات الإسرائيلية ، ولا تنسوا الطيارين السوريين . والله ، ليظلوا يصطادوا السوخوي والميراج مثل العصافير ..."
وتنهد المحتشدون في بيتنا على حلم بعيد ...
*شاعر فلسطيني مقيم في موسكو
( نص من سيرة لم تنشر بعد )

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.