أمام الذاكرة
عبدالله عيسى
١-
مالذي حلّ بالحاج أحمد ونّاسْ؟
كي يغيبَ ، بلا رحمةٍ ، عن صلاةِ الجماعةِ ،
أو يطمرَ البئرَ في بيته بملابس زوجته الميتةْ
ويعلّق خارطةً من رسوم الشعوب التي انقرضت لفلسطين
فوق حبال الغسيل ،
ويغلقَ نافذتيهِ بنعي الشهيدِ الذي ظلّ مبتسماً في جنازته الصامتةْ .
مالذي حلّ
حتى بنى خيمةً عند مدخلِ مقبرة الشهداء
ليحرس سكّانهاالمطمئنٌين من شرّ ما كادَهُ الجنّ والناسْ
٢-
العجوز التي كلحتْ في يديها العصا،
ويداها اللتان ترملّتا
قبل أن يضع العابرون حقائبهم في الممرّ
وتبقى روائحها ، كالجنابة ، فوق الأسرٌةِ في غرفِ العائلة ْ .
لم تلدْ ولداً لتقولَ له : لماذا ذهبتَ إلى الحربِ وحدكَ ؟
لكنها ودٌعتْ ، منذ حربِ فلسطينَ ، كلّ الذين مضوا في المخيّم ،
وانتظرتْهم في الطريقِ المؤدّي إلى جبلِ الشيخِ ،
بالمعطف العسكريّ الذي وزعّته عليها الأونروا
وقد أوقدتْ نارها بعصاها التي كلحتْ
في يديها اللتين ترملّتا بين حربين ِ،
حتى يعودوا
لتسألهم واحداً واحداً : كيف حالُ فلسطين ؟ .
لا تتذكّر إلا لتذكرَ قصتّها:
أنها هرمتْ في انتظارِ ظلالهمُ المائلةْ
٣-
بيتٌ من الطينِ خلف النهر ،
نافذةٌ تمشي إلى حقلي كُرُنبٍ وباذنحانَ ،
وامرأةٌ تروي لصورتِها في البئر شيئاً
وتمضي نحو صورةِ زوجِها الذي لم يعدْ فوق الجدارِ ،
وأنت َ مثلما كُنتَ
ترمي رُكبتيكَ على عشبٍ تمهّلَ في النموّ
لا أحدُ
يغيظ ، بما يأتيك َ، يومَكَ
إلا من رآكَ ولم يمدحْ مكوثكَ في كلامِكَ القديمِ
طويلاً
تحتَ غُرتّكَ الأولى التي اتسختْ ، مثلكَ ، بالرياحِ،
ونظرةِ الغريبِ ،
وخوفِ المارّة المائلينَ ، في الحديثِ ، على أجسادهم
من سذاجةِ المخبِرٍ الثرثارِ ،
لا أحدٌ
من سارقي جمرةِ القِرى
ورواةِ الشائعاتِ
وطُرّاقِ الليالي اللذين لم يعثروا عليكََ في غرفِ الموتى
وأحفادِ حفّاري القبورِ
يعكّرونَ رائحة الوردِ التي صاحبتْ يديكَ في انتظارِ صبايا الحيّ ،
لا أحدٌ
يُهينُ صَوْتَكَ ذاكَ إذ تنادي على القتلى
سوى من رمى على الضوءِ في عينيكَ ظلاً ثقيلاً .
..
غير أنكَ مثلما كُنتَ
ترعى الماء في النهرِ حتى يكبرَ العشبُ والحصى
ويأنَسُ الهدهدُ الأعزلُ ، مثلكَ ، بئرَ البيت
والمرأة التي رأت زوجَها بين النعوشِ الحياةَ ما استطاعتْ سبيلاً.