الرئيسية » » أنا أحب الكتابة | عزمي عبد الوهاب

أنا أحب الكتابة | عزمي عبد الوهاب

Written By Unknown on الاثنين، 20 يوليو 2015 | 1:53 م

"أنا أحب الكتابة
أريد أن أظل هكذا
أكتب حتى اللحظة الأخيرة
وأترك قصائد
بعضها مشوش
والقليل منها يصلح لأن يكون ديوانا،
هذه القصائد سيعثر عليها صديق ما
وسط رماد السجائر فى غرفتى،
تلك الغرفة تحتفظ برائحة
تعبئ الجيوب الأنفية لصديقى، وهو يجمع أوراقا، وينفض التراب عن كتب، لم تمسسها يدى منذ فترة، ويشرد قليلا، وهو يرى بالقرب من السرير "ليس فى رصيف الأزهار من يجيب".
صديقى يترك كل شىء، ويجلس إلى مكتبى، يدون بعض الملاحظات عن أيامى الأخيرة، التى قضيتها هنا، فى إضاءة شاحبة، وغرفة لا ترى الشمس.
يتذكر وهو يدون ملاحظة أخرى، أننى لم أكن أحب النزول إلى الشارع، وأخاف الزحام واللصوص، حتى أن شعرى منحنى هيئة مجنون، أو شخص غائب طوال الوقت.
صديقى يجيل عينيه فى الزوايا، كأنه يبحث عن بصمات قاتل، فى أطباق تعفنت ببقايا طعام، يتجرد من انحيازاته، يتعامل مع "حالة" وكأنه أمام جثة، تثلجت أطرافها، فى محنة انتظار قطار بعيد، وحتى لا تسمعه الجدران سيهمس:
(قتلته السجائر والنساء(
صديقى يعرف أشياء كثيرة،
هو الوحيد الذى يعرف قاتلى، وكيف قتلنى، لكنه – وهو يرفع البصمات عن المقاعد والورق – يود لو تقيد الحادثة ضد مجهول، لأن الغموض يحيطنى بهالة محببة، ولأن الوضوح تافه وضيق الأفق.
هو يريد أن يكتب كلاما مفرطا فى إنسانيته، ليتصدر ديوانا يراه كفيلا بأن يمنحنى خلودا ما، هو يدرك أن سيرتى ليست عظيمة، لكنه سينفخ جملته بشحنة عاطفية، تمنحنى ميتة أسطورية، وتجعلنى نموذجا لدى الشعراء (الآتين من المستقبل) أولئك الذين سيعرفوننى من ديوانى الأخير.
طبعا سيطارد الموت، كأنه حادث سير، منذ ديوانى الأول "النوافذ لا أثر لها" إلى الأخير "يمشى فى العاصفة" حتى يقول إننى أجمل الموتى، وأننى الذى رأى، ولأنه يعرف أننى عشت قسطا من حياتى، كأى شخص محافظ، لن يقترب من علاقتى السرية بامرأة عاهرة، سيشير من بعيد إلى مخطوطة "السيدة فقدت زوجا فى الحرب" ويتحدث عن صعوبة نشرها، لأنها فاضحة أكثر مما ينبغى، وقد يتجاهل عضويتى فى حزب سرى أيام الشباب، واسمى الحركى ومغزى اختيارى له.
هو يعرف أننى عشت حياتين:
واحدة فى قبلات الحدائق العامة، والجنس السريع فى الشوارع، والبيوت التى ترددت عليها كأنها بيتى.
وواحدة فى الجرى وراء لقمة العيش فى الوظيفة، والمؤسسات الضرورة.
كانت حياة باردة،
وكان يعرف متى أضع القناع، ومتى أخلعه، وكثيرا ما حذرنى من غلطة لاعب السيرك، التى ستكون واحدة وأخيرة، وكنت أحدثه عن مسافة حافظت عليها، بينى وبين الآخرين، مسافة وهمية لا يراها غيرى.
ربما يبدأ صديقى من هنا بالضبط.
من اللحظة التى ذابت فيها المسافة، وصرت متورطا فى الآخرين، بصورة تجعلنى أقترب من التلاشى فى هيئة شخص لا ينتمى لى، سيسمى ذلك غلطة لاعب السيرك، ويحاول استعادتى من متاهة، كنت مدفوعا إليها، على نحو يليق برجل قدرى، ولأنه يريد ألا يثقل كلامه بالحواشى، لن يتورط فى الحديث عنى كبطل إغريقى، يمضى نحو مصيره المحدد سلفا، فهو يعرف أن العادية قتلتنى وكشفت تناقضاتى، فلم أحتمل نثرية الحياة وشعرية الانحراف.
هنا ربما يشير إلى انتحارى البطىء.
يقينا منه أن ذلك يمنحنى خلودا، يحاول أن يلبسنى ثيابه، فالمأساة مدخل ضرورى، يجعل الشعراء (الآتين من المستقبل) يعيدون قراءتى، ويقولون: هنا يسكن شاعر لم يره أحد.
صديقى سعيد، لأن المقدمات تؤدى إلى نتائج يريدها:
شاعر مات وحيدا فى غرفة شاحبة
وترك قصائد مشوشة تشبهه،
أوهم الجميع بأنه انقطع عن العالم والكتابة
وعاش حياته بمهارة لاعب سيرك،
لكنه هوى حين نظر إلى أسفل
كانت الخديعة شركا يبتلع جثته.
الحقيقة أننى لا أثق فى أحد
أريد أن أكون عاديا فى موتى، كما كنت فى حياتى، سأحتفظ بالجانب السرى، بعيدا عن أيدى من يقلِّبون جثتى، ثم ينصرفون إلى التفتيش فى أوراقى، ويتركوننى أسير فى جنازتى وحدى.
الموت لن يفاجئنى بسكتة دماغية
هذا مبهج!
سأمحو آثارى، وأترك مقطعا من "كفافيس" على المرآة:
"ما دمت قد خربت حياتك
فى هذا الركن الصغير من العالم
فهى خراب أينما حللت فى الوجود"
أهديه إلى من يعثرون على جثتى، فى الوقت المناسب، قبل أن تتعفن فى الوحدة. هناك فرصة لأن أعبر عن كراهيتى للكتابة، لأنها أرشدت قاتلى إلى مكمن الضعف فىَّ، فسدد طعنته القاتلة، فالكتابة "كعب أخيل" الذى لا أحبه، وليذهب صديقى إلى الجحيم، ولتأكل النيران تلك القصيدة، التى سممت آبارى، ولم تمنحنى عشبة الخلود.
أنا ميت يا عالم، وأخشى أن أطل عليكم من قبرى، لأرى كيف تنتهكون حياتى السرية، ولا أملك أن أردكم عن جثتى.
أريد أن أكون صفحة بيضاء، لا يكتب الآخرون عليها أكاذيبهم، فالسلام الذى بحثت عنه، لا أريد أن أضيعه هنا.
لذا
أنا أكره الكتابة
وأريد أن أذهب إلى الموت نظيفا
فقط
أود أن يحمل الأصدقاء المقربون جثتى،
إلى قريتى التى ابتعدت،
ثم يقولون:
كان ريحا
لم تلوثها أنفاس البشر!".



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.